وصف الشهود سيارة تويوتا كورولا بيضاء، كانت تسير بطول طريق مزدحم في إحدى الأمسيات هذا الربيع، حين خرج رجل من السيارة وأطلق ما لا يقل عن 4 رصاصات على جسد رجل الدين النحيل "صفوان الشرجبي" وهو يسير بعد شراء الدواء لأمه. سقط الرجل على الأرض، وتجمعت الدماء من حوله.

وأصبح "الشرجبي" آخر إمام مسلم من أئمة المساجد يموت في سلسلة طويلة من جرائم القتل التي لم تحل. وتم قتل ما يصل إلى 27 من أئمة المساجد في العامين الماضيين في عدن والمناطق المجاورة.

وقال "محمد عبد الله"، صاحب الصيدلية البالغ من العمر 32 عاما، والذي شاهد السيارة وهي تهرع سريعا: "عرف معظم الناس في الحي "صفوان"، واستمعوا إلى خطبه. لقد كان مؤثرا. وهذا هو سبب قتله".

لكن من قتله لا يزال لغزا، على الرغم من انتشار التكهنات. ولم تعلن أي جماعة مسؤوليتها عن أي من الاغتيالات، ولم يتم اعتقال أي من الجناة.

وازدادت وتيرة الاعتداءات بحدة منذ أكتوبر/تشرين الأول، مع مقتل 15 من الأئمة، من بينهم اثنان الشهر الماضي، بحسب مسؤولين يمنيين ومجموعة من الأئمة المستهدفين.

وتعرضوا جميعا للهجوم في حوادث إطلاق نار في سياراتهم أو بالقرب من مساجدهم، فر العشرات من رجال الدين الآخرين من المدينة، ومع ذلك، غير آخرون ساعات عملهم للبقاء على قيد الحياة.

وفي هذه المدينة اليمنية الجنوبية الفوضوية، يحكم المسلحون المتنافسون الشوارع، وملأ رجال الدين فراغ القيادة. وباعتبارهم قادة مجتمعيين بارزين، فقد أصبحوا منافسين الآن على السلطة مع الميليشيات الطموحة والقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، وجعل هذا من رجال الدين أهدافا.

وقالت "ليلى الشبيبي"، وهي ناشطة يمنية في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية: "مع كل عملية قتل، يتم إضعاف المجتمع. لقد كان أئمة المساجد قادة فعالين في مجتمعاتهم، وحلوا النزاعات، وقدموا النصائح. لقد كانوا معلمين ومتحدثين في مجتمعاتهم".

وتبدو عمليات القتل مرتبطة بصراع على السلطة بين وكلاء حليفين أمريكيين، وهما المملكة العربية السعودية والإمارات. ويقف هذان البلدان في الخليج العربي معا في حملة مسلحة ضد المتمردين الشماليين "الحوثيين"، الذين أطاحوا بالحكومة اليمنية المعترف بها دوليا. لكن السعوديين والإماراتيين لديهم رؤى مختلفة لمستقبل اليمن.

وكان العديد من أئمة المساجد الذين تم اغتيالهم، بما في ذلك "الشرجبي"، أعضاء في حزب سياسي إسلامي ذي نفوذ، معروف باسم "الإصلاح". وينظر السعوديون إليه على أنه حليف وحيوي لإعادة بناء اليمن. ومع ذلك، يعتبر الإماراتيون أعضاء "الاصلاح" خطر عليها بسبب ارتباطهم بالإخوان المسلمين.

ودعا بعض رجال الدين المقتولين إلى إبقاء اليمن موحدا، في حين تفضل مجموعة قوية من الميليشيات الموالية للإمارات انفصال الجزء الجنوبي من البلاد.

وقال "بيتر ساليسبري"، وهو محلل يمني في مجموعة الأزمات الدولية: "هذه حملة مدروسة بعناية، فالأشخاص المستهدفون خارج التيار الرئيسي الجديد في الجنوب المؤيد للانفصال".

تاريخ من الاغتيالات السياسية
لعقود من الزمن، تعود إلى الفترة التي كانت فيها عدن مستعمرة بريطانية، كانت الاغتيالات وسيلة لكسب النفوذ في جنوب اليمن.

وفي هذه المدينة مترامية الأطراف، التي انهارت فيها أجهزة إنفاذ القانون والنظام القضائي، أصبحت عمليات القتل السياسي شائعة. وارتكب تنظيما القاعدة والدولة الإسلامية العديد من التفجيرات الانتحارية التي استهدفت مسؤولين حكوميين وجنودا ومدنيين. ويتجول الرجال والأطفال وهم يمسكون ببنادقهم في شاحنات صغيرة، ولا يعرف لمن ولاؤهم.

وتنتشر عمليات الاغتيال إلى درجة أن جماعات حقوق الإنسان تعقد مؤتمرات حول كيفية التعامل مع التهديدات.

وكانت المدينة في حالة اضطراب منذ عام 2015، عندما طردت قوات التحالف بقيادة السعودية ورجال القبائل الجنوبيين المتمردين الحوثيين.

وتقع الحكومة في الجنوب تحت القيادة الرسمية للرئيس اليمني المخلوع "عبدربه منصور هادي"، لكن الشوارع يحكمها خليط من الميليشيات المؤيدة للانفصال تسمى "المجلس الانتقالي الجنوبي"، الذي تدعمه الإمارات العربية المتحدة.

ولطالما شكك الانفصاليون في حكومة "هادي" المؤيدة للوحدة، واتهموها بالفساد وقمع الجنوب. كما يزعمون أن حزب الإصلاح، الذي يؤيد أيضا وحدة اليمن، يؤثر على "هادي" ويسيطر على حكومته.

وفي يناير/كانون الثاني، حاول الانفصاليون الاستيلاء على القصر الرئاسي الذي يضم حكومة "هادي"، مما أرغم السعودية والإمارات على إرسال مبعوثين للتوسط في وقف إطلاق النار.

وقال مسؤول أمريكي رفيع إن بعض عناصر "المجلس الانتقالي" من المحتمل أن تكون وراء مقتل رجال الدين.

وقال المسؤول، الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته للتحدث بحرية: "يواجه الإصلاح بالفعل ضغوطا شديدة في عدن وأماكن أخرى، سواء من الناحية السياسية أو الأمنية".

لكن رئيس أمن عدن، القيادي البارز في المجلس الجنوبي الانفصالي، الجنرال "شلال علي شايع"، نفى تماما التكهنات بأن قواته وراء عمليات القتل، وألقى باللوم على من وصفهم بالمتطرفين الإسلاميين.

وقال مسؤولون انفصاليون إن حزب الإصلاح مسؤول عن اغتيال رجال الدين. وقال هؤلاء المسؤولون إن الإصلاح يقتل الأئمة المعتدلين ليضع محلهم أناس أكثر تطرفا.

"سيد الشهداء"
وفي حفل تذكاري يوم 12 مايو/أيار، أي بعد يومين من اغتيال "الشرجبي"، وصفه الأقارب والأصدقاء بأنه ودود ومحبوب، وهو واعظ لا يوجد لديه أعداء بارزون. وفي إحدى اللافتات التذكارية، ارتدى "الشرجبي" سترة فضفاضة، وقميصا ورديا، ونظارات شمسية، بدا فيها وكأنه نجم سينمائي أكثر من رجل دين.

ومثله مثل غيره من أئمة المساجد، لعب "الشرجبي" دورا هاما في المجتمع القبلي اليمني التقليدي. وقدم محاضرات دينية حول القرآن والأخلاق، وتوسط في التسويات بين الجيران الغاضبين، وحل الخلافات التجارية، وقدم المشورة للشباب المشوشين، وعمل كخاطب لتسهيل الزواج والتشجيع على إنشاء الأسر.

كما انضم إلى رجال دين آخرين في حشد المقاومة ضد المتمردين، وجمع المال والغذاء للمقاتلين المناهضين للحوثيين.

وفي خطبه، وعلى صفحته على فيسبوك، لم يبتعد "الشرجبي" عن التعبير عن وجهات نظره ضد حكام عدن، بحسب زملائه وأصدقائه. وحث الشباب على الابتعاد عن الميليشيات الموالية للانفصالية، وندد بالتطرف. وفي بعض مشاركاته الأخيرة على "فيسبوك"، شجب السلطات التي "تسببت في معاناتنا"، وكتب أن "سيد الشهداء (حمزة)، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" (حديث نبوي شريف).

وقال "وائل فارع"، رجل دين آخر ينتمي إلى الإصلاح: "كان صفوان يدعو دائما إلى الوحدة، كما فعل جميع الأئمة المعتدلين الآخرين الذين تم قتلهم، ولم يكن يرى أي خير في الانفصال".

وكان أقرب المقربين من "الشرجبي" يخاف من مناقشة مقتله، لكن آخرين كانوا صريحين في إلقاء اللوم والاتهامات.

وقال الصحفي المحلي "أشرف علي محمد"، في إشارة إلى الإمارات والميليشيات الانفصالية: "لقد تمت هذه الاغتيالات لخدمة بعض الأطراف، من الخارج والداخل. هددت هذه الأطراف بطرد الإصلاح من المجتمع".

أثر الاغتيالات
وعبر عدن، كان للاغتيالات أثر مروع على المساجد. فقد تم إغلاق بعضها وتوقف بعض الأئمة عن إمامة الناس في صلاة الفجر، حيث يوفر الظلام غطاء للقتلة. ويدور آخرون حول مواعيد الصلاة اليومية لتجنب الأنماط المتوقعة. وأصبح الحراس الشخصيون شائعين الآن.

وفي مسجد "هائل سعيد"، لا يوجد إمام بعدما هرب إمام المسجد "علي أحمد محفوظ الخطيب"، من عدن في وقت سابق من هذا العام، بعد اغتيال اثنين من الأئمة في مساجد قريبة حيث اكتشف أن اسمه كان على قائمة الأهداف المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي، كما قال في مقابلة هاتفية من موقع لا يريد الكشف عنه.

وقال "الخطيب": "لم تفعل قوات الأمن والسلطات المسؤولة عن التحقيقات أي شيء لحماية الأئمة أو التحقيق مع من يقفون وراء عمليات القتل هذه".

وقال إنه يعرف ما لا يقل عن 20 من الأئمة الذين فروا من عدن، مشيرا إلى أن تقارير وسائل الإعلام المحلية تشير إلى أن الرقم يصل إلى 120. 

وقال: "طالما أن الحرب مستمرة، فمن الطبيعي أن تستمر هذه الأعمال".

وخارج مسجد آخر في عدن، تعلق صورة على طول الجدار لإمامه الراحل، "شوقي كمادي". وكان "كمادي" قد تتلمذ على يديه كل من "الشرجبي" وزميله "فارع". وقبل 3 أشهر من اغتيال "الشرجبي"، اغتيل "كمادي"، على يد رجلين على دراجة نارية خلال اقترابه من مدرسة لتدريس مقرر قرآني.

والآن، حل "فارع" محل "كمادي" في المسجد، وهو أيضا مؤيد للوحدة وينتقد علنا الإمارات ووكلاءها.

لذا يقول "فارع" إنه يتوقع الموت كذلك، لكنه يضيف أنه درب بالفعل 10 أئمة آخرين.

وأكد "فارع": "إذا حدث شيء ما لي، فسوف يكون هناك آخرون يهتمون بإمامة الناس من بعدي".


يمكنك الدخول الى موقع مأرب برس لقراءة الخبر من المصدر

إرسال تعليق

 
Top